المادة    
يقول ابن القيم رحمه الله: (ففرق بين من إذا أتى بذنب واحد، ولم يكن له من الإحسان والمحاسن ما يشفع له، وبين من إذا أتى بذنب جاءت محاسنه بكل شفيع، كما قيل في شعر العرب:
وإذا الحبيب أتى بذنب واحـد            جاءت محاسنه بألف شفيع)
ثم ذكر بعد ذلك كيف أن الأعمال تشفع لصاحبها، وذكر كلاماً قيماً نفيساً جداً من صفحة (329)، في حقيقة شهادة أن لا إله إلا الله، ولولا الإطالة لذكرناه لنفاسته ولأهميته.

  1. حديث البطاقة (لا إله إلا الله)

    قال: وتأمل حديث البطاقة الذي توضع في كفه، ويقابلها تسعة وتسعون سجلاً، كل سجل منها مد البصر".
    كل سجل منها مد البصر! فيه ذنوب، وموبقات، ومعاصٍ، وغفلة، وإعراض، وغيبة، ونميمة، وقطيعة، وشتيمة.. كله ذنوب؛ فتوضع هذه السجلات في كفة والبطاقة في كفة، فتثقل هذه البطاقة، ولا يثقل مع اسم الله تعالى شيء، تثقل البطاقة لأن فيها اسم الله، وتطيش السجلات وكأن شيئاً لم يكن.
    يقول: (ومعلوم أن كل موحد له مثل هذه البطاقة، وكثير منهم يدخل النار بذنوبه، ولكن السر الذي ثقَّل بطاقة ذلك الرجل، وطاشت لأجله السجلات: لما لم يحصل لغيره من أرباب البطاقات، انفردت بطاقته بالثقل والرزانة).
    أي: لا يقول الواحد منا: هذا حديث عظيم، كلمة لا إله إلا لله ثقلت وطاشت بالسجلات، إذاً: نفعل ما نشاء لأن عندنا لا إله إلا الله، فنقول: القضية ليست قضية بطاقة فقط، هناك حقائق وأعمال للقلب، فمن الذي يستطيع أن يدعي أنه مع هذه السجلات لديه من أعمال القلب واليقين ما يجعل البطاقة ترجح؟
    ولهذا فإن هذه الحالات لشذوذها وخروجها عن القاعدة ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم، ولو كانت جارية على القاعدة لما ذكرها؛ لأن الجاري على القاعدة لا يحتاج أن يفرد بالذكر، وذلك كأن يقال: إن رجلاً رجحت حسناته على سيئاته فأدخل الجنة، لن يأتي حديث مثل هذا؛ لأن هذا معروف وقاعدة معلومة عند الناس، أما هذا الرجل فقد ذكر لغرابة حاله.
    إذاً: لا يأخذ من هذا الحديث أحد قدوة إلا في أمر واحد، وهو تحقيق التوحيد؛ لأن تحقيق معنى لا إله إلا الله هو الذي جعل البطاقة تطيش بالسجلات.
    ثم قال: (وإذا أردت زيادة الإيضاح لهذا المعنى؛ فانظر إلى ذكر من قلبه مملوء بمحبتك، وذكر من هو معرض عنك غافل ساهٍ، مشغول بغيرك، قد انجذبت دواعي قبله إلى محبة غيرك، وإيثاره عليك، هل يكون ذكرهما واحداً؟)
    سبحان الله! الله تعالى يقول في الحديث القدسي: {وإذا ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم}.
    وأنت -ولله المثل الأعلى-ليس حال الذي يذكرك وتذكره مثل غيره، فالحالان مختلفان بسبب ما قام في القلب.
  2. قاتل المئة نفس وما قام بقلبه بعد توبته

    قال: (وتأمل ما قام بقلب قاتل المائة من حقائق الإيمان التي لم تشغله عند السياق عن السير إلى القرية، وحملته على أن ينوء بصدره، ويعالج سكرات الموت).
    وهذا يدل على أن التائب له عند الله تعالى منزلة عظيمة، وأنه يجب أن نتوب إلى الله كما أمر فقال: ((وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ))[النور:31]، وأنه يجب أن نحث الناس جميعاً على التوبة، فإن منزلة التوبة منزلة عظيمة مهما كانت الذنوب، وهذا الرجل وهو يعالج سكرات الموت يخاف أن يموت وهو في القرية الفاجرة، فينوء بصدره ويتحرك لكي يزحف ولو قليلاً؛ ليقرب من أرض التوبة والخير.
    فيا من أعطاك الله تعالى المهلة والعافية، والعلم والفراغ والوقت! ألا تتوب إلى الله سبحانه وتعالى، وإذا كان هذا يعالج التوبة وهو في هذه الحالة، أفلا نتوب نحن؟! جعلنا الله من التائبين الصادقين.
  3. قصة البغي مع الكلب

    قال: (وقريبٌ من هذا ما قام بقلب البغي التي رأت ذلك الكلب، وقد اشتد به العطش يأكل الثرى).
    القلوب لها مفاتيح، وسبحان الحي القيوم الذي خلقها هكذا! بعض القلوب لا تأتي من باب الصلاة ولا الصوم، تأتي من باب الشفقة والرحمة، مهمل في صلاته وطاعة ربه، لكن لو قلت له: هناك فقير، لانكسر خاطره، وسعى إلى جبره، وهذا باب من أبواب الخير يُفتح له.
    إذاً: أيها الداعية! ادخل عليه من هذا الباب؛ حتى يدخل إلى المسجد ويصلي ويصوم ويحج؛ لأن هذا الباب هو الأساس، وليس هناك أي مانع، المهم أن تعرف مفتاح قلبه.
    وإن من غفلة بعض الدعاة -وليس هذا من منهج النبي صلى الله عليه وسلم ولا صحابته أبداً- أن له موقفاً واحداً، فكلما جاءه أحد قال له: ليس فيك خير، صل واتق الله.
    ولو كانت الدعوة هكذا لكان أمرها سهلاً، يحفظها أي أحد ويقولها لكل شخص، لكن الدعوة ليست هكذا، بل عليك أن تعرف أساليب الدعوة إلى الله، فهذا رجل تأتي من جانب العرض والغيرة..
    رجل غيور، يقاتل حتى لا يرى أحد امرأته أو أخته، لكنه مضيع للصلاة وللعبادة، فتدخل إليه من باب الغيرة، قل له: يا فلان! أنت -ما شاء الله- غيور، وهذه الغيرة من الإيمان، ولهذا ما رأيك أن تخرج من بيتك هذا المنكر؟ وهكذا تتدرج معه حتى يهديه الله تعالى.
    وهناك أناس تأتي إليهم من باب الإنفاق، وأناس من باب الشجاعة، فتقول له: أنت لا تقدر أن تقول كلمة الحق، هل أنت خائف؟ قل لفلان، وأنكر عليه، فإنه لم يستطع أحد أن يكلمه، فاذهب أنت وكلمه. فيقول: أنا أستطيع أن أكلمه، من يكون وماذا يكون؟! فيذهب ويكلمه، فهذا الرجل تدخل عليه من باب الشجاعة؛ فكيتب الله الأجر، وهكذا...
    وهذا ما فعله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وأمثاله، فالداعية الحكيم ينظر إلى أحوال الناس، فلكل قلب مفتاح، أما الخطاب العام فلا ينفع في ذلك.
    هذه المرأة كانت بغياً وهناك فرق بين امرأة زنت وبين امرأة بغي، فالبغي: هي المحترفة والممتهنة لهذه الحرفة الدنيئة الدنسة التي تترفع عنها الحيوانات.
    وأشنع من ذلك فعل قوم لوط، ذلك الفعل الذي لا يفعله الحيوان، فضلاً عن أن تجد حيواناً يحترف ذلك، إلا الإنسان إذا انحط وسفل وترك دين الله، وكرامة الله التي أكرمه بها، وهي التمسك بالتقوى وبالطاعة.
    هذه البغي رأت كلباً اشتد به العطش حتى أكل الثرى، فقام بقلبها وازع الرحمة، مع عدم الآلة -فلم يكن عندها دلو- وعدم المعين -ليس عندها أحد يعينها- وعدم من ترائيه بعملها.
    وهذا ليس ولد فلان بن فلان، بل هو كلب لا يفهم ولا يمكن أن تمن عليه، فهذه صفات مبررات للقبول بإذن الله: ليس لها معين، ولا عندها آلة، ولا يوجد من ترائي أمامه أو تمن عليه، بل هو كلب لو مات فلا أحد يسأل عنه، ولا يعبأ به.
    فحملها وازع الرحمة في قلبها على أن غررت بنفسها في نزول البئر، فلو انفك أو انقطعت الشجرة التي كانت تمسك بجذعها، أو وضعت قدمها على حجر ضعيف، فإنها ستموت، فيقولون: ماتت من أجل الكلب، لكن حقائق الإيمان إذا قامت في القلوب فإنها لا تبالي، وهذا هو المعنى الحقيقي لقول المتنبي :
    وإذا كانت النفوس كباراً            تعبت في مرادها الأجسام
    النفوس الكبيرة هي التي عرفت قيمة الجنة، وأن سلعة الله غالية، وأنها لا تشترى بالضعف والمهانة والاستكانة، وإنما تشترى بقول الحق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وبالقيام مقام الأنبياء، وهكذا فليكن من أراد الجنة.
    فنزلت البغي وملأت الماء في خفها، ولم تعبأ بتعرضها للتلف، وحملها لخفها بفيها، والواحد منا لا يرضى أن يضع خفه أو شرَّابه في فمه، لكن كل هذه المعاني ذهبت؛ لأن أمامها غاية؛ لما قام في قلبها داعي الخشية والرحمة والشفقة نسيت كل هذه الاعتبارات، فحملت خفها بفيها حتى أمكنها الرقي من البئر، ثم تواضعها لهذا المخلوق الذي جرت عادة الناس بضربه، فأمسكت له الخف بيدها حتى شرب، من غير أن ترجو منه جزاءً ولا شكوراً، فأحرقت أنوار هذا القدر من التوحيد ما تقدم منها من البغاء؛ فغفر لها.
    فانظر حالها وحال الأخرى التي رآها النبي صلوات الله وسلامه عليه في قصة كسوف الشمس، وأخبرهم صلوات الله وسلامه عليه: أنه رأى الجنة ورأى النار، ورأى في النار امرأة تعذب في هرة، لا هي أطعمتها ولا هي أطلقتها حتى تأكل من خشاش الأرض، فهذه في النار تعذب، وهذه مع البغاء والزنا وامتهان هذه الحرفة الخبيثة غفر لها.
    إذاً: القضية ليست مجرد أن هذا أذنب أو هذا لم يذنب، فإن كل ابن آدم خطّاء، ولكن يجب عليك أيها العبد الصالح دائماً إذا أخطأت أو أذنبت أن تستحضر التوبة والندم والانكسار والحياء من الله سبحانه وتعالى، ومراقبة الله؛ حتى تعلم أن هذا الفعل بسبب أن الله أوكلك إلى نفسك، فإذا قامت هذه الحقائق بقلبك؛ فإن هذا الذنب سيكون بداية خير كثير.